الجمعة

باب الشمس .. حلم الوطن الذي تخلى عنه الجميع

.


باب الشمس .. وحلم الوطن الذي تخلى عنه الجميع



كنت اتمني قراءة الرواية الأصلية المأخوذ عنها فيلم "باب الشمس" للمخرج يسري نصرالله قبل ان أبدأ في الكتابة عنه، وهي الرواية التي تحمل نفس الاسم (باب الشمس- إلياس خوري- دار الآداب، بيروت-الطبعة الأولى 1998). وأنا وإن كنت أعتقد أن من حق الفيلم أن يقدم وجهة نظره الخاصة التي قد تختلف عن العمل الأصلي إلا أنه يبقى دائما من المفيد الإطلاع عليه، على الأقل لمحاولة الإلمام بدفقته الشعورية التي أثرت في طاقم العمل ليقرروا تحويله إلي فيلم سينمائي

والفيلم الذي تمتد مدة عرضه حوالي 5 ساعات مقسم إلي جزئين: الرحيل و العودة. وبداية من التيترات الأولى التي يأخذنا فيها الفيلم إلي داخل عالمه الحزين، نستطيع أن نشعر أن لغة الرموز هي المسيطرة على الفيلم، فنرى لقطات مقربة على أيدي تتناول ثمر البرتقال، تقشره ثم تلتهمه بشغف، فهذا الغصن من البرتقال هو كل ما استطاعوا اصطحابه معهم من أرض فلسطين، وفي مقابلة شديدة الرهافة نشعر وكأن هذا الثمر الذي يتناولونه هو رمز للأرض الذي بذلت وما زالت تبذل من اجلهم، تماما كتناول الخبز إقامةً لذكرى المسيح الذي بذل نفسه من أجل خلاص العالم. [1


والبناء الدرامي للفيلم يقوم على سلسلة من الحكايات المتشابكة والمتداخلة يربط بينها شخصية يونس الأسدي، الفدائي الفلسطيني الذي ينام في غيبوبة بينما يمرضه الدكتور خليل الفدائي السابق في محاولة يائسة لإنقاذه من الموت شبه المحقق منذ البداية. وخليل الذي يرفض الاستسلام لفكرة موت يونس والده بالتبني ( فيونس بتاريخه النضالي يمثل الرمز الأبدي للصمود ضد الوجود الصهيوني) يقوم بملازمته طوال الوقت وخلال ذلك يحكي له ولنا عن حكاياتهم: حكايات يونس وحبيبته نهيلة، وأمه وأبيه وعن خليل وحبيبته شمس، وجدته وأمه، عن أم حسن ودنيا وعدنان أبو عوده. عشرات الحكايات التي تتراص وتنساب في إثر بعضها البعض، تتداخل مكونة نسيجاً متشابكاً نتبين من خلاله الحكاية الأكبر والأكثر شجناً...حكاية فلسطين: الوطن الذي ُسلب، والشعب الذي شُرد

وحكايات العشق في الفيلم لا تنتهي، فحينما نتحدث عن حب الوطن والتراب والأرض لا يمكننا إغفال الحبيبة والابن والأم و غيرها من علاقات الحب المختلفة

نقل فؤادك حيث شئتَ من الهوى.. ما الحبُ إلا للحبيبِ الأولِ

كم من منزل ِ في الأرض ِ يعشقه الفتى..وحنينه دوماً لأول منزل [2

هكذا يردد الجد العجوز أبو يونس هذه الأبيات حين الخروج الكبير من فلسطين، فتحفظ نهيلة الأبيات لتظل تذكرنا بها علي مدار الجزئين

ومن بين كل الحكايات اعتقد أن هناك حكايتان أساسيتان تتخذان موقع الصدارة، وهما قصتي الحب بين يونس ونهيلة، وبين خليل وشمس. ونستطيع أن نستشعر أن علاقة يونس ونهيلة هي أقرب ما يكون للحكايات الملحمية، علاقة حب وصمود شديدة السحر و التركيب، لم تبدأ إلا بعد أعوام من زواجهم عندما فرق بينهم الخروج الكبير عام 48 فبقيت نهيلة مع أهل يونس في فلسطين بينما اضطر يونس للهرب إلي لبنان. فهو حب وُلد مع معاناة الفراق، ومن هنا كانت علاقة الحب الرمز، فنهيلة المحبوبة أصبحت بشكل ما هي الأرض والوطن والدافع من أجل النضال والصمود، وأصبحت رحلات يونس المتسللة عبر الحدود إلى باب الشمس، المغارة التي جعلت منها نهيلة مكان لقائهم الخاص، هي شكل من أشكال هذا الصمود ونوع من التواصل مع الوطن الذي فُقد. ففلسطين أو نهيلة هي الحبيبة التي تنتظر عاشقها لتستمد منه قوتها وتنبت له أطفالا من صموده وصلابتها

وهكذا فإن الجزء الأول ملئ بالشاعرية وحالة من السحر التي تقترب من الحكايات التي اعتدنا سماعها في طفولتنا، فرغم مرارة الطرد والتشرد عن الوطن ورغم قسوة وعنف الغاصب الصهيوني—التي شعرنا بها وكأنها يد القدر تترصد بهؤلاء المطرودين من قراهم وبيوتهم، حيث تطاردهم مكبرات الصوت غير معلومة المصدر وكأنها أصوات سماوية أو كأنها ضربات القدر ما أن نسمعها حتى نتيقن من الهلاك الذي سيحل بهم، فلا منقذ و لا مفر—إلا أن هذه القسوة بقيت داخل حالة شاعرية أشبه بالحلم أو الكابوس، فكما في الحكايات نحن على يقين من أنه مهما طال سلطان الشر لابد له من الزوال ولذلك فقد انتهي الجزء الأول ونحن نشعر بهذه الحالة من الأمل التي تحيط بأبطال الفيلم، حيث ينتهي بفرح داخل القرية التي يعرف أهلها أن يونس الفدائي زوج نهيلة هو والد أطفالها وأنها ليست عاهرة كما ادعت علي نفسها بجرأة أمام لجنة التحقيق، فالحبيب لم ينس محبوبته والنبتة لم تزل أصيلة وإذا كانوا قد اغتصبوا منهم أرضهم فإنهم بالتأكيد لم يغتصبوا منهم إرادتهم على النضال والصمود والدفاع عن الكرامة

أما الجزء الثاني فعلى النقيض، يصدمنا بواقعية مفجعة، نترك معها حكايات التاريخ وننتقل إلي الحاضر والماضي القريب، حيث العشرات من تفاصيل الحياة اليومية المؤلمة، تتصاعد لتكون لدينا شبه تصور عن أسباب ضياع القضية إلي اليوم. ولذلك فقصة الحب التي يطرحها من نوع مختلف، فمن الحالة الحالمة السحرية بين يونس ونهيلة إلى الواقعية الصادمة بين خليل وشمس، وشتان بين الحالتين. إن شمس هي المرادف لنهيلة في الجزء الأول ولكنها نموذج تم تشويهه، أساء إليها من حولها ونبذها الجميع...حتى حبيبها خليل، فضّل أن يبقي علي علاقة جسدية معها دون أن يرغب في الزواج منها. فشمس الفتاه الفلسطينية شديدة الولع بالحياة، شديدة الإيمان بالنضال عانت في البداية على يد زوجها بينما وقف الكل صامتون، ونبذها الجميع حينما تناقلتها الأيدي في محاولة منها للخلاص وفي النهاية قتلوها بلا رحمة عندما قررت الانتقام ممن خانوها

إن الفرق بين قصتي الحب في الفيلمين هو الفرق بين بداية الحكاية ونهايتها، فالبداية امتلئت بالأمل والرغبة في الصمود رغم القهر بينما أتت النهاية مليئة بالإحباط والهزيمة والخيانة، والطريق بين النقطتين طويل ومخجل: لقد تخلي الجميع عن القضية كما تخلوا عن شمس وتركوها نهباً للجبناء. وكم هو قاسٍ ذلك المشهد الذي يعترف فيه خليل بأن الجميع قد انكر الفدائي عدنان عندما أطلقوا سراحه من المعتقل، فخرج من هناك حطام إنسان، سُلب عقله وآدميته فلم يبق من الفدائي القديم إلا حطام رجل يفصح عن ضراوة التعذيب الذي لاقاه طوال سنين الإعتقال. وبدلاً من أن يحتفي به الجميع أصبح يسير في طرقات المخيم كالمجاذيب هاربا من حجارة الأطفال العابثة. لقد حكى خليل أن يونس كان قد أعلنه شهيداً وقتله، ليبقي على ما تبقى له من احترام هو جدير به، ولكنه عاد فقال أنهم تمنوا لو انهم فعلوا ذلك، فالحقيقة هي أنهم تركوه ليموت بينهم إهمالاً

تلك هي القضية التي يفجرها الفيلم، كيف ضاعت مننا فلسطين، هل نلقي اللوم علي الصهاينة وحدهم أم أننا جميعاً قد لعبنا دوراً في ذلك؟ هل كما قال خليل: "أن كل العرب يعشقون القضية الفلسطينية ويكرهون الفلسطينيين"؟ فالجزء الأول الذي أرضى ضمائرنا، فخرجنا منه مطمئنين أن فلسطين بخير وأن كل شيء سيكون على ما يرام ما دام بقى فينا من يقدر على الصمود لم يكن إلا نوع من السخرية اللاذعة التي تملؤها المرارة، فالجيل التالي الذي يمثله خليل الذي آمن بالنضال من أجل التحرير قد جُرد من قيمه شيئا فشيئاً وتُرك ليقاتل وحيداً حتى الموت أو حتى يدرك عقم هذا الإيمان. فما أن نكمل مشاهدة الجزء الثاني حتي تنتابنا حالة من الوجوم، فكل ما كان رمزاً للصمود والنضال قد مات أو قُتل أو شُوه أو جُرد من إنسانيته. أما مغارة باب الشمس، المكان الأخير الذي بقى فلسطينياً داخل فلسطين قد غُلّق في انتظارعودة يونس الذي مات. فهل يستطيع خليل وجيله بما يمثله من القيم والمبادئ التي جُردت من معناها أن يحل محل يونس؟

إن الكادر الأخير يخبرنا عن وجهة نظر الفيلم شديدة السواد، فالفيلم ينتهي بنا في داخل المغارة، وبينما النور المتسلل من الخارج يتقلص رويداً رويداً، تعلو الحجارة تدريجياً لتسد المدخل وتغلق على من وما فيها، وعندما نقبع في ذلك الظلام الدامس يحاصرنا بلا شك سؤال لا مفر منه: هل رضينا حقاً أن نقبع في ظلامنا هذا ونستكين إلي ما آل إليه الحال؟ وهل ستري مغارة باب الشمس النهار مرة أخرى أم أنها غُلقت علي كل ما تمثله فينا إلي الأبد؟





[1] *هذا جسدي الذي يبذل لأجلكم، هذا أفعلوه لذكري (لوقا – 14:22 – 23

*أنا هو خبز الحياة. فالذي ُيقبل إلي لا يجوع، و الذي ُيؤمن بى لا يعطش أبداً.(يوحنا 26:6 – 65

[2] من شعر أبو تمام