الاثنين

الأم شجاعة علي مسرح الهناجر

مما لا شك فيه أن مسرحيات بريخت الشاعر والفنان الذي خالط الصعاليك والفنانين المتجولين والعمال العاطلين، وارتاد الحانات والحواري والأزقة الضيقة قد عبرت عن واقع الفرد واغترابه في مجتمع لا يحقق له إمكانات الحياة الضرورية، ويدفع به نحو مناطق التوتر والضياع، وهو الشكل السائد للكتاب المعاصرين للحرب العالمية الأولي من أمثال كافكا ودوبلن وفيرفل وغيرهم· و قد انطلق بريخت ليؤسس منهجه الملحمي في المسرح الذي هدف من ورائه إلي كسر اندماج الممثل في الشخصية المسرحية التي يقوم بها، وتحرير المتفرج من الإيهام المسرحي، فعوضاً عن هذا الاندماج ،يصبح الهدف هو اتخاذ موقفاً فكرياً تأملياً، مما يجعل من المسرح البريختي مسرحاً تثقيفياً ذو طبيعة تحريضية إيديولوجية وبذلك يصبح أهم انقلاب في جماليات العرض المسرحي في القرن العشرين

ومع بداية الخمسينيات انتقل مسرح بريخت إلي الخشبة العربية في مصر ولبنان وتونس والمغرب والعراق وغيرها لتتجلي تأثيرات هذا المسرح (البريختي) في كافة عناصر المسرح من كتابة وإخراج وتقنيات جمالية، فقد عرض له مسرحيته "القاعدة والاستثناء" سنة 1963 في مسرح الجيب، و مسرحية "الإنسان الطيب" سنة 1966، ثم"دائرة الطباشير القوقازية" سنة 1968 ، كما تم تقديم مسرحية "الأم شجاعة" التي أخرجتها ليلى ابو سيف في أوائل السبعينات

وربما رأى مخرج الأم شجاعة عند اختياره لهذا النص أن هناك حاجة حالية إلي مثل هذا النوع من النصوص التأملية في ظل الظروف الراهنة، حيث أصبح المجتمع ككل في مرحلة من مراحل التغير التاريخي والصراعات الأيديولوجية، ومن هنا كان اللجوء إلي هذا النص الذي تتوافق أحداثه مع الكثير من الأحداث الجارية و يطرح العديد من التساؤلات التي تنعكس علي حالنا اليوم، فمسرحية "الأم شجاعة" التي تعرض لفترة من فترات الحرب في القرن السادس عشر بين الطوائف المسيحية الكاثوليك والبروتستانتية، و التي استمرت ما يقرب من ثلاثين عاماً، تستند في ظاهرها علي خلفية تاريخية، بينما إننا نستطيع إيجاد العديد من نقاط التلاقي بين ما يحدث علي الخشبة و بين الأوضاع الحالية، أن العرض يتصدي لعدة أفكار تتعلق بالإنسانية بشكل عام: من المستفيد من تصاعد الحروب؟ من هم تجار الدمار؟ هل يسعي الإنسان إلي استمرار الحروب والخراب لتحقيق مصالح شخصية قريبة قد تكلفه سعادته الحقيقية؟ هل من المعقول أن يحتفظ الإنسان ببراءة فطرته في ظل تسيد قيم وقوانين الحرب الوحشية؟

إن شخصية "الأم شجاعة" التي تؤدي دورها الفنانة دلال عبد العزيز، هي شخصية بائعة متجولة لديها ولدين وبنت خرساء، تتكسب قوتها من تجارة البضائع التي يتعذر شرائها في زمن الحرب، مستعينة علي ذلك بعربة صغيرة تدفعها أمامها حاملة فيها بضاعتها، ورغم يقينها بمدي كذب دعاة الحروب ومدي الخسارة التي تحل بكل من يتبعهم إلا أننا نراها تتحول شيئاً فشيئاً إلي أحد المستفيدين منها، ففي زمن الدمار يصبح بمقدرة تجار الحروب التربح من الخراب الذي يحيط بكل شيء حتى يتحولوا هم أنفسهم إلي دعاة حروب. وخلال ترحال الأم من بلدة إلي أخري، تفقد تدريجياً كل معني لكفاحها من أجل أبنائها، فها هي تفقدهم الواحد تلو الأخر بينما تتواري القيم الإنسانية أمام طغيان المادة وسطوتها، ففي أحد أكثر المشاهد قسوة وتصاعداً درامياً نجد الأم وهي تساوم علي حياة أحد أبنائها بالعربة التي تتكسب منها، فتعجز عن الحسم لعلمها أنها بفقدها لعربتها فإنها تفقد المصدر الوحيد الذي تتقوت منه، ونتيجة لتباطئها في هذه المساومة اللعينة، فإنها تفقد أبنها الذي يتم إعدامه. إنها المشاعر الإنسانية الفطرية في مواجهة قيم المادة ووحشيتها


ولقد ساعدت السينوغرافيا بشكل إيجابي علي زيادة الإحساس بمدي التشتت والمعاناة التي يعيش فيها الإنسان في ظل الحروب، فجانبي المسرح مغطيان بالكامل بمجموعة من الأقمشة أو هي أقرب ما يكون إلي الخرق البالية وقد تجمعت بجانب بعضها فأعطت مساحات من الألوان والأشكال التي تشبه أعلام الدول أو هي كخرائط الجغرافيا والتقسيمات الحدودية مما حول المساحة المسرحية إلي ما يشبه أرض المعركة. وقد استخدمت عناصر مرئية مثل السلالم التي اتخذت اتجاهات مختلفة صعوداً ونزولاً بما تحمله من دلالات مكانية، أيضاً استخدام الأسلحة المختلفة، حيث امتلأت الخشبة بالعديد من الأسلحة المختفية التي تنوعت ما بين البنادق والرماح والخناجر، وأقول المختفية لأنها لم توضع بشكل معلن صريح وإنما أستترت داخل أجزاء الديكور المختلفة، فإذا بسلاح البندقية ُيكوّن أحد أعمدة البوابة الكبيرة التي تتوسط الخشبة، وإذا بالرماح تتدلي من الشواية وكأنها تستعد للانطلاق ناحية شخوص العرض الواقفين تحتها، أنها حالة من التوتر المستمر، فالخطر يحيط بالجميع دائماً والإحساس بعدم الاستقرار يصاحب الأحداث، وقد كان لاستخدام العمق الكامل للخشبة في مسرح الهناجر والتي يزيد كثيراً عن الأعماق المتبعة في المسرح المشابهة، دوراً لا بأس به في الإضافة إلي حالة الفوضى والخراب، فقد بدا المسرح وكأنه ساحة خردة كبيرة، وإن كنت أعتقد انه لم يتم توظيف ذلك بشكل كافي في دراما العرض إلا في عدد قليل من المشاهد التي كانت أحداثها تدور في عمق المسرح، ولكن لم ُيوجد المخرج ضرورة حقيقية لاستخدام هذا العمق المسرحي، يضاف إلي ذلك أن المستوي المرتفع من البوابة التي تتوسط المسرح لم يتم استخدامها إلي في أحد المشاهد الأخيرة مما يطرح تساؤلاً حول أهميته الدلالية طوال العرض

أحد أهم المشاهد الناجحة سينوغرافياً هو المشهد الأخير حيث رأينا الأم شجاعة بعد أن فقدت كل شيء ذو قيمة بالنسبة لها في الحياة، ولم بقي لها غير عربتها التي دفعتها أمامها خارجة من العمق المسرحي في إتجاه الجمهور، وقد وقفت جميع نماذج وشخوص العرض متربصة بها أو متفرجة عليها وكأنهم تحولوا إلي أصنام لا تكترث بعذاب البشر أو هم ضباع تنتظر سقوط ضحية جديدة. أنه صورة كاملة لهذا العالم البشع الذي أنتجته الحروب، عامل يمتلئ بالسفاحين والمرتشيين وبائعات الهوى والمغتصبين يقف في مقابله على الجانب الأخر المشردين والجائعين، وعلي الأم شجاعة أن تدفع عربتها أمامها إلي الأبد، فإما أن تكون مع القتلة أو أن تكون مع المقتولين

الأداء التمثيلي بشكل عام كان جيدا وإن لم يتميز أحد بالقدر الكافي، فمعظم الشخصيات جاءت شبه باهتة وغير مؤثرة حتى أنني أعتقد أن الدور الرئيسي في العرض كان يحتاج إلي مزيد من الثقل والحضور المسرحي بما يتناسب مع قوة الشخصية الدرامية وهو مع الأسف ما لم يتوفر في العرض. أما مناطق الأداء الحركي الراقص فقد كانت من القوة والتكثيف بحيث ظهرت بجانبها الحوارات المسرحية علي درجة من الترهل والضعف

ولكن يبقي السؤال الأساسي الذي يفرضه التناول الذي قدمه العرض: ما هو المسرح البريختي وما هي مقوماته وأهدافه؟ فالمخرج الواعي حين يقوم باختيار أحد نصوص بريخت يجب عليه أن يدرك طبيعته ويضع الشكل المناسب لتقديمه. أن صدمة التغريب هي أهم مقومات المسرح البريختي، ويقول الناقد إبراهيم فتحي: إن المسرح البريختي قد شكل وعياً بأن الهدف المسرحي هو التفكير والتغيير من خلال المنهج الملحمي الذي استخدمه بريخت، فالفن لا يكفي فيه المحاكاة بل لابد من الإضافة، والفنان البريختي هو الذي يحرر الجمهور من التقمص

إن العرض كما قدم هو عكس هذه الفكرة تماماً، فالتمثيل المغرق في الإيهام والتناول الذي يدعو إلي التوحد مع الشخصيات في معاناتها، هو عكس ما يدعو إليه منهج بريخت في التمثيل وباستثناء بعض الإيفيهات التي كان يلقيها رجل الدين البروتستانتي، في إسقاط صريح علي الواقع، والتي كانت تكسر من الإحساس بالهالة المقدسة لرجال الدين والمتوقعة لدي المتلقي، فأن العرض لم يخرج من دائرة العروض الكلاسيكية


ومن هنا يبرز التساؤل عن أسباب اختيار نص لبريخيت إذا كان التناول سيتم بهذا الشكل، وهو ما لم أستطع الإجابة عنه بشكل مقنع، ولكن تبقي حقيقة أن مسرح بريخيت له سحره الخاص الذي يلقيه علي مشاهده، فلا يملك تجاهه إلا الانصياع لضرورة التفكير في التساؤلات التي يطرحها النص. ولذلك فإن تيار بريخت يظل هادراً وقوياً لأنه استلهام لاحتياجات عميقة في التحول الموضوعي للإنسان، نحو تجاوز عالم الفوضى والوحشية إلي عالم أفضل وأرقى